المختار اللغماني بين العبارة الشعبية والعبارة الشعرية


بقلم احميده الصولي
كانت الحركية الثقافية التي عرفتها سنوات الستينيات بتونس متنوعة، في مستوى النشاطين الثقافي والأدبي، وخاصة من حيث ظهور التجارب الأدبية والنوادي، وحتى في مستوى الصحافة والنشر، تلك الحركية قابلتها حالة سكون وجمود وربما تهميش ولا مبالاة في أواسط السبعينيات، بحيث تركز الاهتمام العام على “المظهر اللائق” والانكباب على كسب المال والتنافس – غير الشريف أحيانا- للوصول إلى مواقع السيطرة على مصادر الثروة ومصائر البشر، الأمر الذي أصبح معه الباحث عن القيم والتأصيل في عداد الشواذ. وحصلت تبعا لذلك القطيعة بين القيم الخالدة وإنسان “المظهر اللائق”. هذا الواقع ولد ردة فعل عنيفة عكستها ألوان الإبداع في كل المجالات، وكان المبدعون في مواجهة تطورات تراجعية في مستوى الإعلام والنشر ومحاولات احتواء الفضاءات الثقافية وتحويلها إلى خلايا شبه سياسية، وغالبا ما يجد المثقف الرافض التقوقع داخل هذه الفئة أو تلك، يجد نفسه يعمل في إطار سياسي لم يختره بل لعله يتناقض مع ميولاته طولا وعرضا.
في هذا الجو الغائم بِمدِّه وجزره نشأت البذور الأساسية لشعر المختار اللغماني الذي كان موزعا بين ممارسة العمل السياسي في الجامعة والكبت الفكري في الشارع ؛ فكان ككل أبناء جيله يبحث عن الفضاء الذي يستطيع أن يتنفس فيه هواء نقيا. ولان الفضاءات كانت جميعها مُسَيَّجة والهواء لا يحصل عليه المرء إلا بمقدار، وتحت شروط لا يرتضيها أحيانا، فان ذلك انعكس على الإبداع، وأصبحت الحالات الإبداعية تُهَرًبُ مثلما يُهرًبُ الحشيش أحيانا. وصارت الرقابة الذاتية تمارس مسبقا على الأعمال الإبداعية عند كتابتها حينا، وعند نشرها غالبا ؛ والاقتصار على قراءات محدودة لبعض الأصدقاء أو نواد لا تضم غير القليل من الرواد. وكثيرا ما توجه ملاحظات حول ما يقرا فيها، بل لعله يوصى أحيانا بعدم السماح لهذا الاسم أو ذاك بالقراءة أيضا.
كان المبدعون – لحسن الحظ – واعين بهذا الأمر، وكان من بينهم من يتعرض إلى مضايقات. ولكن ذلك لم يمنعهم من مواصلة الكتابة والانتشار، مما سبب ألوانا أخرى من المضايقات التي بلغ بعضها حد المس من القوت. فهناك من فرً إلى خارج البلاد، وهناك من زج به في السجن بتعلات غير فكرية تغطي هذه الأخيرة. المهم أن كثيرا ممن تحملوا مسؤولية المستقبل، صمدوا في وجه كل العواصف وتحدوا إحباطات الانتقاص من قدراتهم والإهمال لما يبدعون. وهناك من تم استيعابهم فسكتوا، إلى جانب من تكيفوا حسب التلقين وانخرطوا في العكاضيات، ولكن كثيرا منهم تمردوا على ذلك كله.
كان المختار أحد الذين تمردوا على تلك الإحباطات ولم يعبأْ بها. كتب في الأشكال التي ارتآها، ومارس بِحُرية ذاتية إبداعه الشعري. وشارك في نحت شخصية وطنه بعيدا عن المصلحية والوصولية وغيرها. وانتج لنا عددا من القصائد جمع بعضها في كتاب اصدرته الدار التونسية للنشر اثر وفاته تحت عنوان : “أقسمت على انتصار الشمس” في 114 صفحة من الحجم المتوسط ويضم 33 نصا تمثل بعض مراحل تجربته القصيرة زمنيا.
ولقد قسمت في موضوع سابق تجربة اللغماني الشعرية إلى مرحلتين ؛ ارتبطت الأولى بتوزعه بين الإيديولوجيات مما احدث فيها شيئا من التذبذب واللاَّ استقرار في حين ارتبطت الثانية باكتشافه ذاتَه وإدراكه من يكون. وهذه النتيجة كانت متزامنة مع توقف هذه التجربة مما جعلني أطلق استفهامات حول الهدف الذي من اجله وجد المختار. هل جاء ليعيش 25 سنة في البحث عن هويته، ولما عرف انه عربـيٌّ غادر الحياة؟ وهل من الطبيعي ان يقضي العربـيٌّ عمرا كاملا في الشك واعتناق الإيديولوجيات مجربا وممارسا وملاحظا حتى يصل إلى إدراك انه عربـيٌّ؟ في تصوري انه توصل إلى قناعة حاسمة اوقفت كل مسلسل البحث اللامجدي في حياته. تلك القناعة التي جاءت واضحة جلية ومبررة في قصيدته التي اعتبرها شخصيا من روائع شعرنا العربـيٌّ في تونس وهي : “حفريات في جسد عربـيٌّ” علما بان هذه القصيدة قد تمت دراستها اكثر من مرة وقد قال عنها حافظ قويعة مثلا : “حفريات في جسد عربـيٌّ “أُوبرا” ثورية معاصرة يمكن استغلالها مسرحيات” ضمن الدراسة التي خصصها لها ونشرت بجريدة الشعب الملحق الثقافي (15 جانفي1982) ونلاحظ أيضا إن عددا آخر من قصائد اللغماني قد تمت دراستها، في حين بقي عدد منها طي الصمت حنى الآن. خاصة تلك التي لم تصدر في مجموعته، والموجودة بأرشيف الدار التونسية للنشر المجمدة حاضرا.
سأنطلق في هذه المحاولة الدراسية من مجموعته الشعرية المذكورة معتمدا نفس التقسيم الأول المذكور، في عملية تحديد – عبر نماذج- للاستعمالات اللغوية التي توخاها أدوات تعبير وتوصيل في كلتا المرحلتين. ففي المرحلة الأولى اعتمد المختار على العبارة الشعبية التي يَنحتُ منها صوره وإشاراته الدالة على مواقفه. في حين اعتمد في المرحلة الثانية الصور الشعرية العربية ذات البعد الإيحائي والموظّفة لرموز الحضارة العربية عموما.
وحريٌَ بالتذكير هنا أن الشاعر قد مرّ في تجربته الحياتية بحالات انتماء إيديولوجي كان لها تأثير واضح على توجيه استعمالاته وربما ساهمت في اختيار اللغة التي أراد التعبير بها. وقد أفرزت إشكالا متجانسة في المرحلة الأولى، ثم حدث نوع من القطيعة مع هذه الأشكال في المرحلة الثانية. وكان تحوله من توظيف عبارات الواقع اليومي الشعبي التونسي حيث البدلات الزرقاء والعرق والروبافيكا وغيرها إلى واقع اوسع وأعمَّ، حيث الانتهاكات والخطر المدمر الذي يترصد المصير العربـيٌّ ؛ والذي يسهم فيه العرب بممارسات عددها في قصائده. وهذا السياق يمكن ملاحظته ببساطة في قراءة اشعاره . لذلك، سأمرّ مباشرة إلى دراسة نماذج من استعمالاته في قسمي تجربته :

-القسم الأول :
لعل قصيدته بعنوان “عبارتي شعبية” تقوم خير شاهد على هذه المرحلة التي تعكس توجهه الفكري والفني والايديولوجي أيضا. يقول:
عبارتي شعبيه
عاملة ساعيه
وواعيه
اضربت عن الاعمال الفنية !
***
عبارتي شعبيه
قبيحة كالجوع
لا تصف الربيع
فهي ليست شعريه
***
عبارتي شعبية
تلبس لباس العمال
فليس لها جمال
ولا تحسينات بلاغيه
***
عبارتي شعبيه
يرفضها ارباب الجرائد
ولا يمنحونها حق لجوء القصائد
لانها حمالة سوء،شقيه
***
عبارتي شعبيه
تحارب العملاء
ولها سوابق عدليه
***
عبارتي شعبيه
تجوع كالفلاحين
تعطش كالعمال
وتحبس كالثوريين
لكن تبقى مثلهم حيه !
(ص ص31-32 الديوان)

وكأن ذلك الموقف رد استباقي على من كانوا يحاولون رفعه إلى مستوى اللا نقد من جهة وعلى الذين يتحاملون عليه من جهة ثانية. فمنذ المقطع الأول يوجه المختار قارئ شعره أو سامعه إلى عدم اعتبار ما يكتبه عملا فنيا. ولعله بذلك يؤسس دون قصد لونا من الكتابة الفنية. وفي المقطع الثاني يدعي أن عبارته ليست شعرية وأنها قبيحة كالجوع. فهي هنا في مواجهة قبح محاولات التجويع إذن هي مثلها في القبح. في المقطع الثالث يشير إلى بساطتها ووضوحها فهي لا تعتمد الُمحسنات البلاغية. ولعل في بساطتها جمالا. المقطع الرابع يرفع الشاعر احتجاج الشعب ضد قلة من مصاصي الدماء ؛ ولا يعقل ان يتحدث المضطهد لغة الرضى ما دام يعرف مضطهده. إذن فعبارة المختار حمالة سوء شقية في مفهوم رؤوس الأموال. في المقطع الخامس يعلن عن إدانتها مسبقا لان من تُقال لهم حاكَموها في مناسبات سابقة وأعلنوا إدانتها. ولكنها في المقطع السادس تتساوى بالفلاحين والعمال الثوريين، فتبقى في سجل الخلود حية. ويشير إلى جوع الفلاح الذي ينتج غذاء للجميع. وإلى عطش العامل الذي يسيل عرقا في خدمة الحياة والأحياء.
بهذا الوعي جابه ابن الريف المختار اللغماني، حالات انسانية لا تتحدد بمكان معين. وانعكس ذلك على حسه ونبضه فأصبحت العبارة عنده أَلَمًا يسًاقط على الورق. ولأنّ الذي يحترق هو المختار فان الورق بقي وعاء يحفظ أَلمه. ولأنه ارتبط – واعيا – بحالات التعفن التي تصيب المدينة في كل مستويات الحياة فيها، فلم يستطع التخلص من ضرورة تحديد الأمكنة فيها، وحتى استعمالاته بهذا الخصوص كانت مهذبة. يقول:
رأسي محطة قطار المرسى
وعلى رجلي المربوطتين إلى قيد الألم
يركب قوس باب فرنسا
وتنصب ثياب الروبافيكا
وعلى أذنـيَّ المنتصبتين في زمن الصمم
يصيح إنسان :
“يا ربي راني جيعان”
(ص 11 الديوان)
في هذا المقطع نلاحظ شريط أحداث ووقائع عايشناها ولا نزال. فعند قراءته تبرز إلى أذهاننا وذاكرتنا صورة ذلك الذي يصيح : “يا ربي راني جيعان” ؛ لكأنها تقع الآن ؛ إذ ما زال يعترضنا في اكثر من موقع رغم مرور السنين. ونلاحظ بانه لم يستعمل العبارة الرائجة “(Port de France) بل قال : “باب فرنسا” رغم ان الترجمة مختلفة. وفي هذا التحريف قصد عميق الصلة بالواقع الذي كانت عليه بلادنا في السبعينات وما قبلها خاصة.
في هذا المقطع افتك المختار العبارة من أفواه أصحابها ليحوِّلها إعلان احتجاج ضد مدعيي الرقي الحضاري، والخروج بالإنسان من مرحلة البداوة او الحيوانية. فحتى الحيوانات تجد ما تأكل. ولكن مازال الإنسان بلا مأكل في بعض المواقع. وتصبح بناء على ذلك كل الشعارات المرفوعة في هذا الخصوص مراوغة حضارية. ويؤكد المقطع نفسه مع غيره ان المختار اللغماني يحمل هموم الإنسانية كلها. ومن استعمالاته أيضا ان حاول اصطياد عبارات تقع بين الفصحى والدارجة. وهو يعكس في مختلف هذه الاستعمالات الحالات النفسية التي يكون عليها. فتارة تتأزم حالته وأفكاره، فإذا هو يصرخ :
مصلوب أنا على الكأس
مضروب على الرأس
ومخبوط في الدماغ
(ص14 الديوان)
ولعله هنا يعتمد على الدلالات المباشرة للكلمات المستعملة دون مراعاة الناحية اللغوية التي تحدد موقعها وكيفية رسمها والاداة التي تربط بينها. ويمكن ان نشير إلى بعض الاستعمالات التي تفتح نافذة على أعماقه في فترة تقلبه بين الأفكار والجاذبيات السياسية يقول :
لاني لا أَرضَى لأفكاري أن تجهض
لان كلمة الحرية ليست للتمضمض
وليست لمن يخلوض
سأعرف كيف ابني أفكاري
ابنيها، ابنيها، انا الباني
اعجنها بأحزاني
أُنـَجِّرُها بأسناني
وارفض ، ارفض ، ارفض
ص 19
وفي ذلك ما يدل على حصول اختلافات مع بعض هذه الحساسيات. يقول أيضا:
ريفي، كأَنْ تقول “جبري”
غريب عن الحضارة
……………

ريفي كأَنْ تقول غبي
في مسرحيات الاذاعه
ويهدي الدجاج والبيض
في سنوات المجاعه
ص24
وهنا ينقل المختار بلغته الفاضحة بعض السلوكات المتخلفة، بأساليب تستهدف الانتقاص من بعض البشر أو احتقارهم، دون أن تتعرض للظروف التي أوصلتهم إلى تلك الحال، وبالتالي هل هو الغباء ؟ ام هي التقية؟ ولعل المختار أحس بمرض العنصرية التي تعاني منها بعض العناصر في مجتمعنا. فمازلنا نطلق كلمة “النـزوح” وكلمة “ولد بلاد” للتدليل على ان الآخر ليس له علاقة بالمتكلم. وكاني بالمختار يحتج على هذه الصور المشوهة للواقع والقيم الحضارية والإنسانية، مؤكدا ان من يتمتعون بهذه العقلية لا يمكن بحال ان يتقدموا حضاريا وبالتالي فانهم مرضى. وخطر عدواهم غير مأمون العواقب على البلاد والعباد. يقول أيضا:
تخشبت عقولنا
تشققت تحت الشموس
سوست
نخرها السوس
ص33
وهذه صيحة يطلقها نيابة عن جيله الذي تغذى بنوعية جديدة من التفكير والرؤى ولكنها حبست ؛ فكان يعاني من البطالة الفكرية والجسدية معا. إلى أن يصل إلى حالة كهذه :
وسقوطي الذبابي على الخبزة اليومية
ص41
وهي الحال التي يقع فيها من يصادف شغلا بعد طول البطالة. وينغرس فيه حتى الاشراف على الهلاك. هذا إذا لم تسلب من أجله إرادته وانسانيته. فيتحول إلى حيوان غذائي منتج بمقابل هو الاكل فقط.
اكتفي بهذ النماذج القليلة من المرحلة الأولى واشير إلى انها غنية بمستويات متعددة ومتفاوتة من الاستعمالات الشعبية المعبرة عن هموم الشعب اليومية والمستمرة. وهذه النماذج أَذكرها للتاكيد على ان هذه المرحلة، بكل تقلباتها وتحولات الرؤى الفكرية عنده كان المختار فيها مشدودا إلى همٍّ وحيد هو الحياة اليومية بكل شعوره إزاء ما تلاقيه الطبقات الشعبية من الحيف والحرمان والتذبذب.

-القسم الثاني
تتسع دائرة الادراك الواعي عند المختار، فتنمو حالة الوعي هذه، وينتقل الاهتمام إلى حالات اخرى اشمل والصق بمصير المجموعة التي يعايشها. ويتجلى له الموقف الذي طالما تعذب لاكتشافه بين اشكال التهميش والذبذبة. ويدرك الحقيقة النهائية. فإذا هو مواطن عربـيٌّ. وسيترتب على هذا الموقف الجديد شعور أوسع واعمق، اعتبارا للمصير العربـيٌّ المشترك بين اجزاء الوطن الكبير. تكون نتيجة ذلك بحثا في مقومات القصيدة العربية. فإذا هي كائن حي له شخصيته ومميزاته. وما دامت العروبة قدر المختار الذي أفنى عمره في البحث والتمحيص، هدفه التعرف من يكون، فلا مناص من تأكيد انتمائه إلى هذه الأمة /القدر. ولا بد من كتابة القصيدة المؤكدة هذا التوجه الجديد. وهو ما يبرز في القصائد الأخيرة من الديوان التي تمثل المرحلة الثانية في رحلته الحياتية القصيرة.
ولا بد من التاكيد هنا على ان انتقال المختار إلى التعابير الأدبية ،لم يكن انقطاعا عن الحالات اليومية التي كان ممتزجا بها، حيث انه ما زال يفعل ذلك اراديا ؛ انما جاء التحول في شكل انتشار الضوء الذي ينطلق من موقع ولكنه يملأ الفضاء والكون كله. فحين انفتحت عيناه على قدره، على الحقيقة التي اضاع عمره كله في البحث عنها، اعلن في اخر العمر القصير جدا :
اشهد اني عربـيٌّ حتى آخر نبض في عرقي ص99
وباعلانه ذاك اختطفه الموت. وفي هذا الحادث دلالات عدة. فالمختار مغروس في الواقع العربـيٌّ سواء بين مساكين باب البحر في تونس او عبر إدانة بطولات الخمر والجنس في كهوف الليل بباريس ولندن وغيرهما. أو كشاهد على أرصدة الشعوب التي يبذرها تجار وسماسرة النفط في العواصم العالمية. ولعل الأهمّ من كل ذلك الرغبة العارمة في الدفاع عن الأرض والعرض، ولكن حراس الحدود لا يرضون بأَقل من أرواح الراغبين في ذلك ؛ بحجة الأمن الداخلي، والأمن الخارجي، والمصالح المشتركة، وما إلى ذلك من الذرائع.
في هذا السياق يعتبر المختار آستشهاد “هاني جوهرية” وثيقة إدانة ضد كل العرب. فهم الذين يقتلون الواحد بعد الآخر من الوطنيين الأفذاذ، بواسطة العملاء والأعداء. لذلك، فإن المؤامرة تحاصر كل نبضات الوعي. اسمعه يقول:
يتدفَّأُ قلب الثلج الآن
ويفاخر هذا الجبل الأبيض – اذ يحمر – جميع جبالك يا لبنان ص87
وفي الاجساد العرببية مواقع سيبيرية عديدة لا تعبأُ بتوالي الفصول وتغيرات الطقس. وعندما تُسفح الدماء البريئة فوارةً يشعرون بالدفء. لذلك يربط المختار الجغرافيا العربية من خلال جبالها.
علمني أن جبالك يا لبنان تعانق في الحضن “الأوراس”
ترتاح صباحا في الربع الخالي وتبيت الليل “بفاس”
وأنا يا هاني في تونس تحت الجبل الأبيض اذ يحمرَُ
وقفت اراقب عينك تغمر قلب الجبل وكل الوديان
ونهار سقطت وجدت فراشك أجفان، ووجدتك أجفاني
ووجدتك في الأحضان
وأرى الآن الجبل الأبيض – إذ يحمرُّ- تململ في عينيك
صار له قلب، نبض، شريان، صار له رجلان ويدان
أضحى أحلى العشاق أقوى الفرسان ص87
لعل في هذا المقطع تلوح اهتمامات الشاعر واضحة، فلم تعد مسالة الخبز وحدها او الجوع والتعب وحدهما هي المسيطرة. فها هو يحمل مأساة شعب أنهكته الخيانات والعمالات ودمرت مبادراته التراجعات والطعن في الظهر والأحابيل. هنا صارت عبارته شعرية ودخلت فيها المحسنات البلاغية ؛ لكن في نحت مختلف للصورة. فالمختار فيما ارى لم يكن عاجزا عن كتابة القصيدة العربية المتميزة من قبل، لكنه كان ماخوذا بالموجات المتلاطمة على الساحة التونسية ومنها حركات التجديد او تلك التي تدعيه. وحين كتب قصيدته جاءت رائعة في شعريتها رغم حاجتها إلى مزيد الدقة في بنائها العروضي، والايقاعي، الذي ليس موضوعنا الآن.
ونشير إلى بعض الاستعمالات التي برزت في مرحلته الثانية هذه ومنها:
تقول رمال الصحاري بان انتماء إلى الريح خير من النوم
في الانتظار وكبت الجماح ص92
ثم :
– سالتك يا أُم
أنت التي تلدين صغارك كل صباح
وأنت التي ترضعين الصغار حليب المحبة والكبرياء
وأنت التي تقرئين عليهم كتاب العطاء
وحين يصيرون اجمل فرسانك الأوفياء
تصيرين غولا يمزقهم في المساء . ص93
فأية أُمٍّ هذه التي تفتك بأبنائها على هذه الصورة ؟ لعل المختار يقصد أولائك الذين أوكلوا إلى أنفسهم بآسم الأم – عن حق أو عن غيره – مهمة رعاية الأبناء فكان ذلك منهم ويكون.
في قصيدة “حفريات في جسد عربـيٌّ” تعترضنا تضمينات كثيرة لوقائع وشخصيات تاريخية وبطولات ومناف وحالات إعدام القيم، أسقطها الشاعر على وقائع وممارسات عصره العربـيٌّ. من ذلك ما حدث لكل من :
-أبو ذر الغفاري والربذة منفاه
-الحلاج وعملية إحراقه
– ابو نواس ورفضه الوقوف على الأطلال، والإيحاء بشخصيته الحقيقية
إلى جانب غيفارا وهوشي منه ولوممبا والأهرام والنيل وغيرها. وتأكيدا للتحول المومإ إليه، وحالة أمته العربية بين أيدي من نصبوا أنفسهن حماتها، يقول المختار:
عربـيٌّ، عربـيٌّ، اشهد بالصفعة احملها كل صباح
من نشرات الأخبار
عربـيٌّ، عربـيٌّ، اشهد بالخجل المر يحاصرني من
شك في بعض رجولتنا، من رؤية سواح غرباء،
ألقاهم كل مساء في عش المحبوبة حين أعود إلى الدار
عربـيٌّ، عربـيٌّ، عربـيٌّ،
أشهد، أَشهد، أَشهد بالعار
ص110
لكن المختار لم يكن في كل مراحل قصيدته متشائما حد اليأس، فهو يحس ان امرا ما سيحدث، وان مبادرات ستتم، وان التقاء عربـيٌّا لا بد له ان يكون :
عربـيٌّ، والليلة يغمرني عشقك ايتها المعبوده
يا كل نجوم سماوات الكون أضيئي
ما عدت بعيده
أضيئي يا كل كواكبنا في الأرض .
فهذي الليلة مشهوده ص110-111
هذا هو المختار، لقد اصبح مقتنعا بأن وحدة الأمة العربية هي الطريق إلى الخلاص، وأنها البوابة المفضية إلى خلاص كل العرب :
آه يا منقذة النفط من السراق، ومنقذة الصحراء
آه يا منقذة الفقراء
أَشهدُ انك آتية ذات ربيع أو ذات شتاء
وسيكنس نورك وجه الأرض الشرقية
وتكونين لنا مِنَّا والجنسية عربـيٌّه.
هذه بإيجاز شديد بعض استعمالات المختار الشعبية منها والشعرية، للتعبير عن رؤيته وتحولاته واستقراره المتحفّز. فقد انطلق من ألَمِ الغربة ووحشة المكان، وانتهى إلى التأهب لاستقبال الربيع بكل أمل وثقة. ولكن، ولكن رحلة العمر توقفت عند الأمل فكأني به استعجل الأمر، إذ بدا له أن ليس للعرب من أَمل في وحدتهم، فقرّر مغادرة حياتهم تاركا لهم حلما كبيرا. أن تكون أمة واحدة، وأن يكون المصير مشتركا وواحدا ؛ بحيث يستطيع العربـيٌّ أن يشعر من خلاله بانسانيته حتى يتسنى له معانقة العالم بروح تطفح سلاما ومحبة، فهل يتحقق له ذلك ؟ أما المختار اللغماني فكان رحيله يوم التاسع من جانفي 1979 بمستشفى شارل نيكول بالعاصمة.

رمزية النصب التذكاري، ودلالاته

رمزية النصب التذكاري، ودلالاته

تقديم : يُعتمد أكثر من أسلوب وتقنية وتخصص، مجتمعة أو منفردة، في تزيين المدن، تتضافر مجتمعة أو متفرقة، لإنشاء معالم أو مواقع متميزة بجمالها من جهة، وبرمزيتها ودلالاتها التعبيرية من جهة أخرى. فقد يكون المشروع تشجيرا وتخضيرا لمساحات، في شكل منتزهات أو حدائق، وقد تكون مساحات تحيط مباني علمية أو حكومية أو غيرها، يتم لها اختيار الأشجار المثمرة والمظللة والمزهرة والنخيل وغيرها من المزروعات التي تضفي عليها مزيدا من الجمال، إلى جانب ما تحمله من فوائد صحية وبيئية. وجميعها توظف في سياقات تقتضيها طبيعة المشاريع المزمع تنفيذها.
قد يكون المشروع كورنيشا أو منتزهات أو قنوات مائية ونوافير، أو حدائق أو أسواقا تتميز بخصوصية عمارتها وزخارفها المشكَّلة بطرق فنية ذات تعبيرات جماليا ودلاليا، وحتى الجسور العملاقة التي تربط أجزاء من المدينة الواحدة بعضها ببعض، كما تم مؤخرا بين مدينتي رادس وحلق الوادي، (بأحواز العاصمة التونسية)• أو تلك التي تربط شطري مدينة بغداد (الجسور المعلقة على نهر دجلة)، وقد تكون ذات وظائف اقتصادية واجتماعية، وترمز إلى أعلام أو معالم أو قيم إنسانية وغيرها.
وقد يكون النصب عملا نحتيا يرمز إلى شخصية تاريخية مثل تمثال ابن خلدون بالعاصمة تونس، أو رمزا تاريخيا مثل نصب شهداء السيجومي، (وكلاهما من تنفيذ الفنان التونسي عمر بن محمود)، أو غيرهما مما أقيم في مداخل أغلب المدن التونسية، أو أقيم في مواقع منها ضمن مشروع أنجز بمشاركة عدد من الفنانين التونسيين، أو بمبادرات ذاتية من بعض الجهات ؛ وهو ما يوجد في أغلب مدن الشرق والغرب على حدٍّ سواء.
ولا بد من الإشارة إلى أن ” الأمور تزداد صعوبة في المدن، من أجل الحفاظ على تأثير العمل النصبي، الأمر الذي يحتم دراسة عميقة قبل تحديد موقعه، وذلك بمراعاة الحاجيات الأكيدة، التي نذكر منها تطور المواصلات، والأبنية وكثافة الحركة في الشوارع ؛ إضافة إلى ذلك يتعين التفكير مليا في أسلوب إشادة العمل النصبي الحديث، إذ يصبح إدخال التغيرات في الوسط المحيط، أو تغيير مكان النصب بعد تنفيذه، صعبا. فمن الناحية الفراغية ظهرت للوجود عناصر جديدة مختلفة كل الاختلاف في الشكل لا تعتمد الطرائق القديمة التي استخدمت عنصرًا واحدًا في المكان (عمود، مسلة، تمثال على قاعدة (إنما ألفت مجموعات نحتية معقدة ومتعددة العناصر.”
والنحت النصبي فن جماعي موظف في فراغ محدد، شعاره التشكيلي هو التواصل البصري. ونظرًا لأّنه مسخر للملايين فمعنى ذلك أن “عليهم فهمه وعليه أن يترك فيهم الانفعال والإثارة.” هذه المقولة القديمة تدعو للتساؤل الآتي: ما اللغة التي يتكلمها العمل النصبي إلى الملايين ؟ وهل باستطاعة الفنان دون تردد تحقيق الاتصال مع الجماهير؟ اللغة التشكيلية تظل قضية بيد الفنان الذي يخلق من الفكرة مادة، ذلك أن اللغة التشكيلية حصيلة من الإشارات والرموز المستخدمة من قبل الفنان، تترجم قصده في تقديم الفعالية الفنية البديلة. أساس هذه الفعاليات هو الفهم والاستفادة الآلية في تحصيل النتائج الفكرية والاستيطقية. ومن الناحية العملية يجب أن يمتلك العمل النصبي لغة مفهومة سهلة المنال ، تعتمد رموزًا لها بعد في جذور التاريخ، تضمن الاتصال الواسع بالمعاني المترادفة.
قد تتعدد وتختلف المواد التي ينجز بها النصب الواحد أو قد تكون مادة واحدة، وفي كل منها نستطيع تبين جوانب جمالية، وأخرى دلالية، وخاصة مظاهر الإبداعية التي تشد إليها اهتمام من يشاهدها.
النحت والنصب التذكارية :
يعتبر النحت إحدى أهم الوسائل التي تحدَّتْ الزمن، لتدعم أملنا وقدرتنا واعتزازنا بتراث أجدادنا ومعلمينا، وهو باعث على التفكير في استمرار الحياة، والقدرة على الخلق الجديد والابتكار الدائم، انه فن الخلود، إذ يُعَدُّ الأثر النحتي النصبي والتزييني اليوم، من المظاهر الحضارية المهمة في أي بلد. وإذا كان تقدم الدول يقاس بطول السكك الحديدية لديها، وتطورها العلمي والتكنولوجي، فإن جمال المدن وحضارتها، تقاس أيضا، بما لديها من تماثيل فراغية، ونصب تذكارية، ذلك أن أجمل المدن والبلدان، تلك التي تستقبلك بإبداعات فنانيها ومزخرفيها ومهندسيها، ولطالما عُرفت المدنُ واشتهرت، من خلال هؤلاء، وعبر أعمالهم الخالدة التي ترصع فضاءاتها.
والجانب الوظيفي المشترك بين النصب التذكارية في المراحل المختلفة مقصود ؛ لقد خدم العمل النحتي وما زال يخدم إشباع الحاجة عند الإنسان. وباعتقادنا أنه لا يتوافر في المجالات الأخرى من الفنون التشكيلية ما يمتلكه النحت النصبي من شخصية متميزة على الدوام، تتبلور في حضوره القوي الذي يحرضنا على الملاحظة والتفكير والتأمل والحوار الداخلي والتقويم . فالنصب التذكارية تنير البصيرة، وتذكرنا بقدرة الإنسان الإبداعية.
تعريف النصب التذكاري : إنه “إبداع نحتي أو معماري نحتي مشاد من أجل التذكير بشخصية أو حدث تاريخي، وغالبا ما يأتي تشخيصيا (تمثال لشخص أو لمجموعة أشخاص) أو على هيئة عمود أو مسلة، على هيئة بناء أو تلة مصطنعة، أو صخرة نحتتها الطبيعة وضعت في مكان مقصود “. وتُجمع الموسوعات تقريبا على أن العمل النصبي هو تذكار، صرح = رمز للذكرى.، هو إشارة تذكارية، رمز للتذكير بحدث تاريخي.
وكل عمل نصبي يرمز إلى شيء محدد، يمكن استخلاصه بالرجوع إلى مكوناته وأدائه التعبيري، كما لكل نصب دلالات مختلفة، وهو ما يدعونا إلى التعرض إلى أهمها في هذه العجالة :
أولا : النصب التذكاري، الرمز والدلالات :
لقد تم تصنيف النُصُب التذكارية، وفق رمزيتها ودلالاتها، على نحو يسهل قراءة أي منها والتعامل معه على ضوء السياق الذي يوظف فيه، وهي :
1-اعتمادًا على المعايير التنظيمية وقواعد التشكيل الفني، هناك: نصب دينية ونصب دنيوية.
-2 اعتمادًا على المعايير المقرونة بالمصدر الذي أشيد من أجله العمل هناك: نصب تشخيصية ونصب الأفكار والتصورات.
-3 اعتمادًا على المعايير المقرونة بالمكان هناك : نصب بالمدينة ونصب في المنظر الطبيعي.
-4 اعتمادًا على المعايير المقرونة بتعدد المضامين والأشكال هناك: نصبٌ مؤلفة من عنصر واحد ونصبٌ متعددةُ العناصر.
-5 اعتمادًا على المعايير المقرونة بالمكان، من حيث تلبيته وظيفةً تذكارية، وامتلاكُهُ معانٍ رمزيةً قويةً، هناك: نُصْب في مكان الحادثة ونصب يمكن إشادتها في أي مكان (غير تابعة.)
-6 اعتمادًا على المعايير المقرونة بكيفية نقل المضامين هناك: نصب دعائية ونصب احتجاجية مناهضة.
-7 اعتمادًا على المعايير المقرونة بطريقة نقل المضامين هناك: نصب تعتمد أسلوب السرد القصصي ونصب تعتمد الإشارات.
-8 اعتمادًا على المعايير المقرونة بتحوير الإشارات المستخدمة هناك: نصب مجازية (عديدة المعاني) ونصب واقعية (واضحة، محددة الدلالة.)
-9 اعتمادًا على المعايير المقرونة بالمضامين التي تعتمد المديح للنشاطات التي قدمها الرمز في حياته أو المحافظة على ذكراه بعد الموت ، هناك نصب التمجيد ونصب ضريحية.
من الضروري أيضًا في هذا المضمار، التذكير بالأعمال النصبية التي تمتلك معايير مختلفة مجتمعة، على سبيل المثال : الجمع في العمل الواحد بين النصب الضريحي والتمجيدي في آن واحد.
وارتبطت النصب التذكارية بالمتنزهات العامة في كثير من المجتمعات، كما اختلفت النظرة إليها من حيث إيلاؤها المكانة التي تحظى بها، كترسيخ حضور الأَعلام في أذهان النشء وحتى في ذاكرة الكبار أو ما يرمز إلى القضايا الوطنية أو التاريخية وغيرها، من خلال المنتزهات. ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلا، حيث “للكونجرس وحده حق إقامة المتنزهات القومية، وباستطاعة رئيس الجمهورية تقرير الأنصاب التذكارية”
يقول النحات البولوني كسافيري دونيكوفسكي : “على امتداد التاريخ الطويل يخطئون الخطأ الكبير نفسه. فبالنسبة إليهم تبقى مشكلة »الانسجام هي العنصر الرئيس، يريدون أن تكون جميع الأعمال النصبية منسجمة مع العمارة نعم! كل ذلك من أجل أن يبعدوها بصورة نهائية عن النشاط والفعالية… أنا أعتبر فقط دور “التضاد”. ومن أعظم وأضخم ما رأيته في حياتي فيما يتعلق بهذا المجال، المسجد الأقصى في مدينة القدس (…..) لكونه يتنافر مع الوسط المحيط. أنا لا أعترف إلا بفعالية من هذا القبيل”
إن النصب التذكاري، كما ذكر آلدو روسي في بعض كتاباته، هو “العلامة التي يفهم منها المرء شيئاً لا يمكن أن يقال بغيرها، لأنه يخص سيرة الفنان وتاريخ المجتمع”. وقد اعتبر روسي النصب التذكارية بمثابة علامات ثابتة داخل المدينة، التي تعد هي نفسها صنعة بشرية جماعية متغيرة عبر الزمن، وتتألف من أجزاء متعددة. وهو يرى أن النصب هي التي تشكل أجزاء المدينة المفعمة بصفة البقاء والدوام، نظراً لقدرتها على الإحاطة بالتاريخ والفن والذاكرة الجماعية للمكان. وهي في رأيه تعد أعمالاً فنية عن جدارة واستحقاق، بل تسمو على الفن من حيث كونُها علاماتِ إرادة جماعية، ويرفض روسي التعبير المجازي الشائع الذي يشبه المدينة بكائن عضوي حيٍّ يتشكل من خلال التطور المتراكم لعملية التكيف مع وظيفته. ويرى، على خلاف ذلك، أن النصب التذكاري نوع خاص من الأعمال الفنية، يقوم في إطار عمل فني أوسع تمثله المدينة. وهو حدث عام وشكل فني في آن واحد، يتسم بأسلوب معين وفريد في زمانه ومكانه، ومع ذلك فهو يربط بين ماضي المدينة ومستقبلها. ولذا فإن جوهر النصب التذكاري، كمثل جوهر المدينة، يكمن دائماً في مصيره.”
كثير من الأعمال النصبية المهمة التي تعالج موضوع (الصراع) وموضوع (الاستشهاد) تُثبَّتُ خارج حدود المدن، حيث توجد في الأماكن الحقيقية للأحداث الأليمة، وعلى أرض المعارك في وسط المنظر الطبيعي. وبالتأكيد إن هذه الأعمال تمتلك طاقة تعبيرية كبيرة ليس لكونها منسجمة مع الوسط المحيط، وإنما لتضادها لما حولها من مظاهر الطبيعة. وأقرب مثال على ذلك (تمثال شهداء السيجومي) بالعاصمة، حيث يبدو مغروسا في موقع مرئي، يؤكد حضوره في المنظور العام على مستوى عالٍ كبير التأثير. فالخضرة والفراغ يضخمان النواحي التعبيرية . والتضاد هنا لا يعني زعزعة النظام الطبيعي، ففي اللحظة التي تم فيها بناء العمل النصبي على يد الإنسان، والتي تم بها تنظيم الوسط المحيط، أصبحا(فالخضرة والفراغ) عنصرين متفاعلين.

يظل النصب التذكاري بقدسيته حاضرًا في مشاعر الشعوب، يؤطر المعاني والمضامين لينقلها عن طريق الأشكال المحسوسة. ومن المفيد جدًا في هذا المكان ما قدمه ” رومان انغاردن” وأكده “جورج كوبلر” حين قال: جميع المضامين يجب أن تعتمد على أسس ثابتة من خلال أشياء ملموسة أو في أشياء أخرى محسوسة. من المفيد جدًا التأكيد على تداخل العلاقة بين الشكل والمضمون . فالعمل الفني يتألف من مجموعة فكرية يتم التعرف عليها، من خلال الإشارات التشكيلية المؤلفة له ملحوظًا بصورة واضحة التلاحم بين الأشكال والمضامين، ولا وجود هنا للأشكال المفرغة من معانيها، والمضامين في أحوالها الذاتية تصبح مادة مجسدة عن طريق الأشكال. لذا ليس بإمكاننا فصل هاتين اللحظتين عن بعضهما، وبهذا تتمثلان مجتمعتين بوحدة فنية حية ومتناسقة. كل مرحلة جديدة، تعبر عن مضامينها الروحية الخاصة، لا تبني من جديد مجموعة الأشكال الفنية المعبرة، ولكنها تستقبل طفولة الأشكال القديمة، تلك التي تتوافق وتتطابق مع الأفكار الجديدة. وهو ظاهرة محصنة لا تكترث بالتغيرات في شكلها المادي والرمزي. لهذا يلحظ المراقب في أكثر من مكان وجود أشكال متكررة الاستخدام، تفقد في كل مرة مضامينها ومعانيها الأولية، وأكثر من ذلك فإنه قد يقطن في الشكل نفسه أكثر من مضمون. مثال على ذلك( شكل المسلة (استخدمت المسلة قديمًا إلى جانب المعابد المصرية، وتستخدم اليوم كرمز للانتصار والموت.
النصب التذكاري إذن، عمل فني، لكنه قبل هذا نتيجة طبيعية لما وراء الاستيطيقا. فالقيم الجمالية لم تعرض هنا من أجل ذاتها دون ارتباطها مع قيم أخرى فكرية وأخلاقية وحضارية، الخ..
يعدُّ التأليف في العمل النصبي ضروريًا فهو يظهر الحالة النصبية بالمعنى العميق للموضوع، كما يوحي بعظمة الشكل وبعث الذخيرة التشكيلية التي تريح المشاهد، وتفسح المجال للعواطف والأفكار بحرية مطلقة، في الوقت نفسه تسمح لنا بالمشاركة في إبداع العمل من خلال بنيته المعنوية. يضاف إلى ذلك أن التأليف في العمل الفني كالينبوع الغزير يغذي الكينونة التعبيرية للعمل ويرفدها بحياة مديدة تسهل الحوار مع المشاهد. فالمنحوتة التي تعبر عن أروع المواضيع المحسوسة إذا لم تهمل العموميات في اللغة التشكيلية، فإنها تظل بعيدة عن الحالة النصبية.
وكما جاء في الموسوعة البريطانية الحديثة (Encyclopædia Britannica): فالمواد القاسية الطويلة الديمومة، التوازن، المقياس، البساطة، المنطق المعماري للكتلة وبنيتها، الانسجام، الحركة، مثالية الأشكال والقواعد، التذكير بالقيم الروحية والبطولات الإنسانية. كل هذه القيم تؤدي دورا مهما في نصبية العمل النحتي.

ويشير هربرت ريد في كتابه “معنى الفن” إلى أن تنفيذ النصب التذكاري يستوجب أسسا أربعة هي : “الموضوع، والحقبة، والأجيال اللاحقة والخامة المستعملة”. وانطلاقا مما تم التعرض إليه، فإن النصب يقوم بوظائف متعددة، دفعة واحدة، إلا أن الأهمية التي يحققها تكمن في مدى حضوره وتواصله مع المشاهد. فالعمل النصبي ومنذ اللحظة التي يدخل بها دائرة الثقافة الاجتماعية يصبح بنية تشكيلية مؤطرة من وجهة النظر المادية، (بغض النظر عن الأعمال التي يستخدم فيها عناصر من الطبيعة كالمياه والأشجار والنار). بيد أن المعاني والمضامين تكون في أثناء عملية الاتصال والحوار بينه وبين المشاهد.

ختاما، إذا كان لنا من خاتمة لهذه العجالة، فإننا نحاول إيجاز العناصر الرمزية والدلالية الوظيفية للنصب التذكاري، وذلك على النحو التالي :

رمزية النصب التذكاري :
” النصب التذكارية تعبير عن أسمى احتياجات الإنسان الثقافية. ولا بد لها من إشباع رغبة البشر الأزليَة في تحويل قدراتهم الجماعية إلى رموز معبرة. فأكثر النصب حيوية هي التي تجسد أحاسيس وتفكير هذه الطاقة الجماعية- أي الشعب. وكل الفترات الماضية التي شكلت حياة ثقافية حقيقية كانت تمتلك السطوة والمقدرة على خلق هذه الرموز. فالنصب التذكارية إذن، لا يمكن أن تظهر إلا في الأوقات التي يسود فيها وعي موحد وثقافة موحدة. أما المراحل العابرة فلم يكن في مقدورها خلق أية نصب تذكارية دائمة “.
ويشيد النصب التذكاري في مساحات داخل المدن وخارجها، وتزين به الحدائق، ولكنه يرمز إلى أشياء عدة نذكر منها ما يلي :
هو رمز للتذكير بحدث أو شخصية تارخية، وقد يكون احتجاجا وطنيا، أو يمثل تفردا إنسانيا، وقد يرمز إلى مظاهر البطولة والشجاعة، أو هو تعبير عن إجلال المجتمع للفعالية الفردية أو الجماعية. وقد يرمز النصب التذكاري إلى المنابع الحضارية والتاريخية، وقد يجسد رمزيا الرؤية إلى العالم، والظروف الاجتماعية والسياسية التي حتمت إنجازه. وقد يعكس مستوى الثقافة العامة، فهو شكل حضاري يحمل قيما اجتماعية إلى الأجيال اللاحقة، وهو يرمز إلى معان متعددة تستهدف تصورات بعيدة المدى، وقد يرمز إلى الصراع أو الاستشهاد، أو القيم الإنسانية بمختلف أنواعها أو القيم العلمية أو الإبداعية…

وظائف النصب التذكاري :

النصب التذكاري بنية تشكيلية مؤطرة ماديا، ولعل أهم وظائف النصب التذكاري تتمثل في إشباع حاجة الإنسان، فهو يحرض على الملاحظة والتفكير والتأمل والحوارالداخلي وحتى التقويم. إنه ينير البصيرة، ويذكرنا بقدرات الإنسان الإبداعية، وهو يذكرنا بالشخصية أو الحدث التاريخي الذي يرمز إليه. إنه حلقة وصل تربط الأبعاد الثلاثة للزمن. إنه حمَّال أفكار قد لا تكون دائما مقبولة، له وظيفة جمالية وأخرى إعلامية، هو باث لرسائل تحمل معان من حياة الشخصية أو الحدث أو القيمة التي يرمز إليها أو يمثلها. يحمل حصيلة ثقافية رفيعة المستوى من خلال حضوره الطويل، وقد يقوم بتنبيه الرؤية لدى المشاهد. إنه أداة للفكر والدعاية السياسية…

ذلك أن من أهم وظائف النصب التذكاري إيصال المعلومات لمن ينشدها، ولأي هدف تمت إشادته. وإن وضوحه هو وظيفته الرئيسية، فهو يخبرنا أو بالأحرى يقدم لنا المعلومات من خلال بيان رمزية النصب وإبراز رمزية الشكل.

وبعد…
تأتي العناية بالنصب التذكارية عادة، انطلاقا من الوعي الجمعي بوظائفها التعبيرية والدلالية والجمالية، لذلك، نرى رهوطا يتدنى الوعي بالحياة لديها، فإذا هي تغتال تلك النصب تحت لافتات لا تقنع أحدا، غير القائم بالجريمة. وفي المقابل، نسمع أو نرى عناية كبيرة بها، وترصد لها الميزانيات الكبرى، ويصبح تاريخ البلاد حيا متحركا، يناصر التطور الفكري، ويؤسس لوعي وطموح لا محدودين في حياة المجتمع ؛ وهو ما يمكن رصده في المدن الروسية والعراقية وخاصة في مدينتي موسكو وبغداد.
احميده الصولي

المراجع

************************

  • – تقع مدينة رادس بالأحواز الجنوبية للعاصمة التونسية، وتقح مدينة حلق الوادي بالأحواز الشمانية لها، على ضفتي بحيرة تونس، ويربط بينهما بطاح بحري، ثم أنجزت طريق سيارة على أعمدة قائمة في عمق البحيرة.

-أحمد الأحمد، لنصب التذكاري ومكانته في حضارة الشعوب. مجلة جامعة دمشق للعلوم الهندسية، المجلد 21، العدد الأول 2005. منشور بطريقة الـ pdf. وقد اعتمدنا المفال المذكور في بعض الاستشهادات من حيث هي مترجمة من لغات أخرى فله الفضل.

DICTIONNAIRE DES BEAUX-ARTS. Les Terminologies
WARSAW 1969 p.287.
– أحمد الأحمد، مرجع ذكر سابقا

– الموسوعة العربية الميسرة، (مادة متنزهات وأنصاب تذكارية)

– J. Starzynski, DONIKOWSKI H YOUNG POLSCEY.
Les discussions avec l’artiste, “Art et Critique” 1957, nr.
3-4, S. 295. SLOWNIK TERMINOLOGICZNY SZTUK PIEKNYCH

WARSZAWA 1969 S.287.

Aldo Rossi : (من أشهر المعماريين من مواليد 4 أيار 1931 وتوفي في 4 أيلول 1997 ميلانوإيطاليا.)

هربرت ريد، معنى الفن – تر سامي خشبة مراجعة مصطفى حبيب. سلسلة : القراءة للجميع. القاهرة، 1998.

احمد الأحمد،، المرجع نفسه

حديث الأوهام

شَيءٌ يَتحرَّكُ في المرآة
والغُرفَة مَلْآى بطَنينِ الصَّمتِ وبعضِ الأصوات
لاَ شيءَ معي غَير صَريرِ الوَخَزَات
أَوهامٌ، أَخيِلَةٌ، تكبرُ حوْلِي،
فيضيعُ دَمي في كُلِّ الهَزَّات
أكبرُ من كُلِّ مِساحَاتِ الصَّمتِ جِراحي
وأَنِيني لاَ أَسْمعُهُ خوفًا من زَيفِ الضحكات
فالضَّجّةُ تَحبلُ بالضَّجّةِ
والوجعُ يَنامُ بعُمقِ صدَاحي.
لآَ أَعرِفُ حَدًّا للمأْزق،
لكنِّي أَعرِفُ أَحداقًا
تُغرِقُ بالدَّمعِ مَسائِي وصَباحي.
***
ماذا يتحرك في المرآة إذن ؟
صَمتي المَكسُورُ علَى أَحزانِ العَصْر،
تُعربِدُ فيهِ الآهات ؟
صوتِي المسفوح دما،
يَترَصَّدنِي، وَيَثُور شُروخًا فِي أسئِلَتي.
يَمضَغُ أَحزَاني، يَتقَيّأُها، ويُكَسِّرُ أَجنِحتي.
أكوَامُ الصَّمتِ تُراهِنُ أَنْ أُقبَرَ فِي رِئَتي.
وَدويُّ الأَمعَاءِ، تَمُوءُ بِأَكثر مِن لُغَتي.
***
ماذا يتحرك في المرآة إذن ؟
هل وَهمي المُتسربِلُ بالإعْياء وَبِالخَيْبات ؟
في وَهمي فَرَّخَ تِنِّينٌ أكبَرُ مِن وَهمِي.
عَيناه تَجُوبانِ الأَصقَاعَ، تَنامَانِ مُفَتّحتَيْنِ،
يدوسُ بأحلام حافية القَدمينِ،عَلَى أنغَامٍ جَذلَى.
******
ماذا يتحرك في المرآة ؟
أَنَّاتي الآكلةُ الرِّئتَيْنِ وتَجرِف أحْزَانَ الآتي ؟
ماذا يتحرك في المرآة إذن ؟
يأسِي المحفُورُ بِأَعصَابي، وبِسمعي يَحرُسُ تِنِّينًا
وفَلاَة؟
ماذا يتحرك يا المرآة ؟
أَخْيِلةٌ تَتعقَّبُ مَرأَى الْعَينِ، وَمنهَا تَقتَات ؟
وتَعصِفُ بالحلْم وبِاللَّحظَات ؟

*****

مَاذا يَتحرَّكُ فِي المِرآةِ إَذَنْ ؟
وَجَعي الآكِلُ لَحمَ الصَّبرِ،
فَيُغتالُ النَّبضُ وتَنتحِرُ الزَّفرات؟
مِن وَجَعي تَهطلُ أَسرابُ البَجَعِ،
وَتَهيمُ بأعماقِي أَصقَاعٌ خجْلَى.
أَتَرنَّمُ مُنكَفِئًا، وأُلاعبُ أَنغامًا ثَكلى.
فِي هذي الهوَّةِ يَختالُ البوُمُ،
وَأَسرابُ الماعِزِ تبحثُ فيه عَنِ الأحلَى.
يَا وَجَعي، أَجِّـجْ أَحلامَكَ،
كَمْ وَجَع في الصَّمت يغُورُ ولاَ يُجلَى ؟
كَمْ وَجَعٍ يَسكُنُ فِي أَحدَاقِي ؟
وَمنَ الأَصدَاءِ تَخافُ سَراديبُ الأعْلَى.

أفكار حول شعرنا الحديث

بقلم : احميده الصولي
تغريك بعض المقاطع الشعرية بطراوة كلماتها، ولكنك عندما تطلب منها أن تكشف لك بعض ما فيها، لا تظفر منها بشيء ذي بال. وتسأل: ما الهدف من الكتابة، إذن ؟
إذا التفتنا إلى تاريخ الشعر العربي في كل مراحله ومختلف أغراضه وتكويناته، فاننا سنجد كل كلمة قيلت إلا وتحمل في أعماقها صراخ العصر الذي قيلت فيما يحدث فيه، أو جنونه التعويضي في الوجدانيات وغيرها، ولكنك مع ذلك لا تعدم رؤية وموقفا وحالة تعبيرية تناسب ما يجري. ذلك أن تاريخ العرب حافل بالأتعاب التي يتسبب فيها الحاكم، ويجني نتائجها الحاكم والمحكوم، بنسب ينال أكبرها تدميرا وتعبا، المحكوم. وما الشاعر إلا من هذه الشرائح التي تُحكم دون إرادتها غالبا.
وإذا أردت أن تجد استمرارا لتلك الفضيلة في الشعر- من خلال بعض ما يكتب اليوم – فانك تحجم عن القول بانعدامه، لأنك لو قلت ذلك ستصبح هدفا لكل رائح وغاد، وستنفى من العصر. هذا العصر يخاف فيه الناس من كل كلمة يقولونها، لان رد الفعل لن يكون مقارعة الحجة بمثلها أو الدخول في حوار يزيح الغشاوة أو يضئ ما تلبدت عليه الغيوم، حتى الكتاب و”المبدعون” اصبحوا يمارسون تشغيل العضلات للرد على من ينقد أعمالهم، وهي أسوأ حالة يبلغها مجتمع الفكر والإبداع على الإطلاق.
تعود فتسأل ما الهدف من الكتابة الإبداعية إذا لم تكن التعبير عن هموم مجتمعها، بصيغ مبدعة، شديدة التأثير، راقية التنسيق ؟ وما قيمة أية حالة إبداعية إذا لم تكن مشحونة بأوجاع الملايين التي لن يسلم واحد منها مما تلوح به العولمة من ويل، وخاصة ما يتحدى الأرض العربية من تهديد في كيانها وكينونتها بعد أن تمرغت كرامة أبنائها، بفعل تخاذلهم، في الوحل، وديست حرماتهم، وانتهك شرفهم ؟ فهل اصبح ممكنا أن يحلم المرء وهو تحت أكداس الجثث، أو هو غارق في الدماء حد انقطاع الهواء ؟
قد يفاجئك بعضهم : لان العالم المتحضر يكتب مثل هذا الشعر، وأن المدارس قد تطورت ولا بد من مواكبة ما يستجد في العالم من حولنا. تكاد تصفق خجلا مما تسمع، وتبكى دما من سذاجته، فتلطم الخدين من نتيجة حالة الغباء المطبق الذي تعيشه النخب العربية اليوم. هم ينقلون عن الغرب كل شيء حتى طريقة الإبداع، ويقلدون قاتلهم في كل عربداته حتى القاتلة منها، وبعضنا يطورها إلى ما درجة العشق للدم. ولا مجال هنا لتوضيح ما تكرسه عبوديتنا للمناهج الغربية التي أفضت بنا أو كادت، إلى خنق كل منابع الإبداع عندنا، لنصبح مجرد مرددين قانعين بما يجود به الآخرون علينا. يريدون أن يتشبهوا بالغرب في كل انحرافاته خاصة، حتى التي تستهدف كيانهم. هم يحلمون بحالة انفراج قد يوفرها الجلاد، ولكن هيهات.
إذن فالمقارنة تصبح سذاجة للأسباب التالية:
– إن شخصية الأمة العربية تتميز بكونها تعبيرية وعقلانية اكثر منها تهويمية وتصويرية واهمة. وكل الشذوذ الذي نعيشه اليوم، لا يعبر عن هذه الشخصية، وان حاز حاكموها الاستثناء.
– إن روح الأمة العربية لا تحتمل كل هذه الإهانات والتحديات، ولا تقبل بان يقرر مصيرها أعداؤها ومنتهكو عرضها، بمساعدة وتامين من باعوا ذممهم وأنفسهم إلى الشيطان. وبالتالي لا يمكن أن تقبل بالتقليد القردي الذي يمارسه بعض أشباه المبدعين، مزهوين بحالات الانفصام التي يعيشونها بين واقعهم ونصوصهم.
– إن ما تروج له الصهيونية العالمية من تأليه للعولمة وللدينار على حساب كل القيم والمبادئ الأخلاقية وعلى حساب روح الأمة الذي هو دينها لا يمكن أن نتلقاه دون فحص واستنطاق لمخبآته ومكنوناته حتى نتبين الأهداف التي يخفيها. ولابد أن نتذكر بأننا أمة لها مميزاتها وشخصياتها وأرضها وتاريخها ودينها وتراثها الحضاري وبالتالي لا نقبل بالتخلي عن كل ذلك لننخرط في ببغائية العولمة وما يسمى بمقاومة الإرهاب من المنظار الصهيوني الصرف الذي يمارس ابشع ألوان الإرهاب على الأرض، ويستغل غباء أغبيائنا فيحولهم إلى حطب لمحارق يحرقون أنفسهم وأهليهم فيها، بمباركة وصمت مريب من جميع القوى والمنظمات الإنسانية والمجتمعية في الكون.
– إن الركام الفكري والإبداعي العربيين يزخر بالمشاريع التأسيسية، سواء في مستوى المنهج أو الاختراع أو سواهما مما تتوفر مجالات الحياة الأخرى على إمكانية الإسهام فيه، وتسليمنا بسيطرة المنهج الغربي على إنتاجنا الفكري، لم يلحق بنا غير التواكل والقبول بكل تحديات الآخر والخنوع لها لا عن عجز، ولكن عن فراغ مفتعل توصم به مرجعياتنا من جهة، ومن أخرى، لإجهاض كل محاولة للخلاص من هذه التبعية التي لا شئ يبررها، سوى إرضاء غرور حراس الفكر الغربي ودعاته من أبنائنا وأهلينا، وبمباركة ودعم من جهل الساسة وخيانتهم لأوطانهم.